الأثر الفصيح في أعمال حكمت العياشي
حكمة الصورة
الأثر الفصيح في أعمال
(حكمت العياشي)
“الصورة ميتة، تحيا بحكمتها”
• خليل الطيار
المعيار النقدي أولا
“الباعث النقدي” ليس هاجّسا شخصيا للتعّبير عن ذائقة “الناقد” عند قراءة أي منجز فني، بقّدر ما هو ركّن جماليّ، ورهان لتعّزيز المسؤولية الثقافية، ودعم لمسيرة المشهد “البَصًري”، وتعضيد مساراته ورصد قيمته الفنية، وتشخيص التحولات الجمالية في أعمال المبدعين”المرئيَين”، رسامين كانوا أو مصورين، لذا فأن مهمة الكتابة النقدية تتطلب انحًيازا كلًيا لقيمة الأثر الفني، ولا تتأثر بشخص المُنتج.
من هذه الزاوية تحديدا تأتي حالة التريث، وعدم المخاطرة بتعّجل الكتابة عن أعمال الكثير من الأسماء المؤثرة في المشهد “الفوتوغرافي”، ما لم تُستكّمل الرؤية التّامة عنها، والرصّد الدقيق لجوهر تجاربهم، ومراقبة نمو مساراتها وتحولاتها، والوقوف عند أبرز عناصرها الفنية وسماتها الجمالية، وتشخيص الخصوصية المتفردة في متّونها، لتأتي موضوعية القراءة منسجمة مع قّيمة تجربة أي مبدع، ولا تتأثر بعمل عابر له، قد تتحقق فيه شروط النجاح.
هذا المعّيار، يترك ّللنقاد فرصة ملاحقة ما ينتجه مختلف المصورين المنتشرين في الساحة العّراقية، ومراقبة دقيقة لكل أعمالهم، وقد تتاح لهم فرصة ملاحقة قّسم منها في وسائل التواصل الاجتماعي، يسجلون ملاحظات عابرة عنها، ويؤجلون الإفصاح عن إشاراتها العامة في قراءات موّسعة، وهذا ما يؤخر الكتابة عن منجز العّديد من المصورين المتميًزين والمؤثرين في الساحة “الفوتوغرافية” العراقية، تتطلب المسؤولية تعضيدها بقراءات نقدية، تستجلي معالم تجاربهم، ونستقرأ بياناتها الجمالية.
رحم التجريب
الخوض في مديات الصورة “السياحية” خاصية متمّيزة لفريق (موثقون للتراث والآثار) الذي يضمّ المصورون(حكمت العياشي – فاضل المياحًي – ذياب الخزعلي – محمد الربيعي) وهم أكثر الفرق الشبابية بعد العام 2003 تجّريبيا وتنويعّا ورصدا لمختلف ألوان الصورة “الفوتوغرافية” خاضوا في معّتركها، وتركوا فيها آثرا بَصّرية متنوعة لعّوالم الشارع والطبيعة، والصورة الصحفية. واقتربوا من عالم الزهور والرياضة، وانشغلوا كثيرا في مهمة توثيق الأمكنة الأثرية والتراثية في عموم مدن العراق، نجحت فيها عدساتهم على تقديم أعمال متوازنة، اتسّمت خصائصها العامة بمسحة التوثيق لمفردات الواقع، استثمروها بتطوير أدواتهم وثقافتهم البَصرية، مكنتهم من تقديم قصّص بَصّرية امتازت بمقومات جمالية حصًدت العّديد من الجوائز المهمة في ميادين المسابقات المحلية والعربية والدولية.
وبالرغم من تجانس إيقاع أعمالهم وتشابه مفرداتها بسبب اشتغالهم في حيز مشترك، لكن ذلك لم يمنع أعضاء الفريق من الاهتمام بترك هويات خاصة لكل واحد منهم، لمسناها في مجموعة أعمال استثنائية، تغلّب فيها الهاجّس “المرئي” لإنجاز محتواها. وبرزّت من بينها تجربة المصور “حكمت العياشي” الذي أختطّ لنفسه أسلوبا متفردا، انحاز فيه إلى لغّة الضوء ومعرفة أسرار تشكلاته، وفهم آلية توظيفه، مكنته من تقديم سّرديات بَصّرية مؤثرة في خطاباتها. نترك له في هذه الدراسة بعضا من دلائل تجربته وتشخيص سماتها الجمالية.
حكمة الصورة
“الصورة” حقّلٌ جمالي تتبلور بنيته وتتغّير وفقا لسعة ثقافة المصور، وقدرته على جعّل فعّلها “المرئي” يكتسب دلالة الإفصاح عن حكمة مْا. فجميع المناخات الضوئية المتشكلة في الواقع تبقّى مجّرد خامات معدومة الأثر، تعيش حالة جمود، ما لم تحركها حكمة المصور عند الألتقْاط، يستنهض خمولها البَصّري، ويمنحها قدرة الظهور بحياة “مرئية” جديدة، تُري بَصائّرنا مالم تقوّ عيوننا على رؤيته. عندها تكتسب الصورة حكمة سّرديتها. وهذه الخاصية هي معيار التفريق بين المصورين “اللقْاطّين” عن غيرهم من المصورين “المرئيّين” ومنهم “العياشي”، الذي وجدنا “مرئياته”في جميع الألوان التي اشتغل فيها، تظهر وهي تحّمل معًها حكمة بَصرّية، يسعى بمعالجاته لتطوير بيانات فصاحتها. فهو لا يجّد في سياق تعّقب التشكلات الضّوئية المألوفة، ما يحفزه على تحقيق رسالة بَصّرية نافعة. ممّا يضطره إلى صناعة “مرئياته” الخاصة، وإن استعان بخامات الواقع الضّوئية، لكنه يذهب لإعادة تركيب مساراتها والتلاعب بنسبها، لتخرج بتمظهر بَصًري جديد، كما في أعماله التي يتقّصد أن يجمع فيها علامتين أو أكثر، ليحصل بمقاربتها على قصّة بَصّرية فاعلة ومؤثرة في خطابها، وتبتعّد عن إطار اللقّطْ التوثيقي. أو كما تظهر في تمويهاته لخلفيات أعماله، وسعّيه للتركيز على علامة واحدة، يسحبنها فيها إلى دلالة حكمتها.
تحريك اللقى الأثرية
رغم ان الصّورة “الأثرية والتراثية” تتطلب مسحا واقعّيا، ينبغّي أن تكون مناقلته أمينة على تقديمه للمتلقي بصورة ماتعّة وجاذبة، إلا أن “العياشي” لم يكتفْ بهذا الغرض الفني، فوجدناه يسعّى دائما الى إيجاد طرق مختلفة يترك فيها فعلاً بَصرّيا في اعماله “الأثرية”. فهو يحرص على أن يختار زوايا نوعية للأثر تسهم بتنمية جماليته وأحّياء جذوته. وأحيانا يعمل على صناعة إطار خاص للقطاته من وَسَط العشّبيات المحيطة بالأثر، أو تعّمده اظهار الطيور في سمائها، ليدل على ديمومة الحياة فيها. أو يعّالج مناخاتها اللونية، بالتلاعب بنسّب الإضاءة وتغّير خلفياتها، ليعزز قوة حضور الأثر، كما لاحظناه في أغلب أعماله “الأثرية” وفي مرئيات “اللاند سكيب” التي أنتجها بجماليات عالية.
وفي سّمة أخرى في التعامل مع الصورة الأثرية وجدناه أحيانا يضطر إلى استخدام عدسة بزاوية منفرجة، تحقق له هدف احتواء القّيمة الجمالية للأثر بكامل معّماريته. كما ظهرت في اعماله عن آثار”القصرالعّباسي” أو في موقع “خانْ النْص” الأثري، تميزت مقوماتها بضّبط التوازن الهندسي لتكوين كوادرها.
المنعكس والمنكسر
تشكل “الشيئيات” المنكسّرة في المسطحات المائية أو المنعّكسة على أسطح المّرايا، مناخا بَصّريا يلاحق المصّورون تشكلاتها، وتوظيفها لصناعة “مرئيات” بجماليات عالية المستوى. وجدنا آثرا لها في منجز “العياشي”. وتمّيزت تجربة أعماله “الانعّكاسية” بتقيّدها الصّارم لحدود الضّبط الهندسي لعناصرها.فوجدناه أحيانا يخالف مضمار قواعد الصورة “التوثيقية” التي تشترط التسجيل الواقعّي للأمكنة، لكنه يوّلي اهتماما لاستثمار فعّلها المنعّكس على المسطحات المائية أو يلاحق تشكّل انكساراتها على الألواح الزجاجية. ويذهب لترتيب مناخات جديدة لها، تعيد صياغة مكان الأثر المنكسّر والمعّكوس، ويعّطيه بعدا جماليا أكثر قّوة من واقعّية تشكله. كما ظهرت في عدد من أعماله المتميزة في هذا المحور.
“أنسنة” الإشارات الضوئية
تستهوي المصّور “المرئي”فكرة ملاحقة تشكلات المناخات الضّوئية التي تتجّلى أمامه بأنماط غير تقّليدية، يحاول استثمارها في إحداث تنويع لصناعة “مرئيات” أستثنائية، وهو ما يتّسم به اشتغال “العياشي”، الذي وجّدناه يجّتهد في توظيف تشكل الهالات الضّوئية المنبعّثة من مصادر أضاءة الشوارع ومصابيح السيارات، يعمل على مزج انكسّارات خطوطها، ليحقق مظاهر بَصّرية مخّتلفة، تعمل معّالجته الفنية على إعادة ترسّيم ومزج مسّاراتها، وتشتيت تشكلاتها بطريقة التعريض البطيء، لينشئ عالما لونيا افتراضّيا. لكنه لا يكتفي بصّناعة هذا التجّريد اللّوني المتوازن، بل يذهب لأنسّنة علامات الإشارة المرورية (Traffic Light) يمنحها فعلاً حركيا تنْزل فيه إلى الأرضّ، متحّررة من عالمها النقّطي، لتبرهْن عن قّوة وجودها لضبط إيقاع حركتنا اليومية، تتحكم دلالة ألوانها بفرضية وقّوفنا ، وتحّركنا، وانتظّارنا!
الانشغّال بروح الضّوء
يكّاد الاهتمام بمحور “الأبيض والأسود” واحّادي اللون، مفصّلا حاسما، يصرّ أغلب المصورين على خوضْ غّماره بتحدٍ، لإيمانهم انه المساحة الأكثر قوة لاستظهار إمكاناتهم البَصّرية، في أحد اهم حقول “الفوتوغرافيا” ونفسَّها الأول. ولا تندرج مقومات جماليات هذا المحور عند مهمة تحويل الصورة الملونة بكبّسة زرْ إلى الأسود والأبيض، بل تتطلب لغّة وقراءة خاصة لإنتاج “مرئيات” تستوحى عناصرها من صعوبة المسك بروح الأضواء وظلالها، كي يبدو أمامها التصوير الملون أقل عسرة في الألتقّاطْ ، واقل جّهدا في التنفيذ. ولا يكاد مصور يتجاوز هذا المحور، أو يتّرك الخوض في غماره، حتى وإن قّدم أعمالا بمستوى راقٍ في عالم الصورة الملونة، لكن سرعان ما نجّده ينحّاز إلى تجّريد بعض أعماله من خاماتها اللّونية، ليقبض على تشكل روحها الأصيلة، وهي تسّكن مناخها الأحادي، مؤشرة إلى قّيمتها الجمالية دون وسيط لوني قد يضعف خطابها.
خطاب التناظر
تعدّ تجربة “العياشي” في مضّمار تجليات “مرئياته” احادية اللون اهمّ ثمرة في منجزه. ويُصر في اغلب اعماله المنفذة بالأسود والأبيض، التأكيد على خطاب التناظر القّيمْي لمساحاتها المضادّة. يوزع أفعال مرئياته الإنسانية، داخل و خارج مساحاتهما بقصّدية جمالية، ليؤشر إلى قّيم سّردية نافعّة، تُظهر قدرته لتوظيف خطاب مساحات الظل والضوء وإمكانية استثمارها في التدليل والإفصاح عن حكمة بَصرية مؤثرة. كما تحقّق في إحدى مرئياته الاستثنائية التي اقّتنصْ فيها حالة ترقب لأبوين مسنيّن، جلسا ينتظران عند حافة مفترق طريق.
وحتى ينشئ لنا معادلة بقّيم متضادة، قّسم “العياشي” مرئيته إلى مساحتين ضّوئيين تقّصد أن يستحضر فعلها الإنساني في المنطقة المضّاءة ليظهر تعّابيرهما واضحة، وهما ينشغلان في همّ انتظار لفعل غائب، ولا يدركان من أي جهة سيأتي؟ هل تكون وجّهته من مساحة العّتمة التي تمثلها بقعة السواد! حيث شًرد الرجل بذهنه مستديرا نحوها، يتوجس قّدوم خبر محزن لغائب طال انتظاره! أم من جهة مساحة الضوء، حيث يمثّل صّبر وحلم أم ممتحنة، وقد جهزت أمامها صندوق حمل بشارة قّدوم غائبها!
وبنفس سياق هذه المعادلة الجمالية قدّم “العياشي” “مرئيات”مؤثرة في خطاب التناظر لخامة “الأسود والأبيض” دلّ فيها على قّدرة متفردة في فهم خصوصية هذا المحور، وإمكانية استثماره لصناعة سرديات، قرأنا في متونها حكمْ بَصّرية مفصْحة.
علامة العياشي الأخيرة.
ترك “حكمت العياشي” في مسّيرته “الفوتوغرافية” آثارا مهمة، تمكنت حكمته أن تحيّي متونها الميتة، وتقدّم فصّاحة بَصرّية متميزة بلغتها. كاشفة عن قدرات مصور “مرئي” فاعل، تمكنت الكثير من أعماله أن تلفت أنظار اللجان التحكيمية لتحصد العّديد من الجوائز والشهادات التقديرية، ثبتت اسّمه بقّوة واستحقاق في بانوراما المشهد “الفوتوغرافي” المحلي والعّالمي .
الدكتور خليل الطيار